#تاريخ_التكتيك | الجزء الخامس

منذ انتهاء فترة “أريغو ساكي” مع ميلان وحتى وقتٍ قريب، كان المدربون لا يبتكرون أشياء جديدة بقدر ما يحاولون مزج عناصر سابقة مع بعضها البعض لخلق أسلوب يتناسب مع فلسفتهم ورؤيتهم لكرة القدم.

ومع التطور السريع للكرة في السنوات الأخيرة، بتنا نرى مدربين لا يتمسّكون بخطة لعب وحيدة، فلم يعودوا يمتلكون رفاهية الوقت والبناء لـ3 أو 4 سنوات، وأصبحت الأندية تطمح لتحقيق النتائج السريعة. هذا الأمر جعلنا نرى ما يُمكن اعتباره ثورةً جديدةً تُعرف بالتكتيكات الجزئية Micro-Tactics.

يُمكن تعريف التكتيكات الجزئية Micro-Tactics بأنها أعلى مستوى في إدارة المدربين للمباريات. حيث تهدف لتحديد أدوار كل لاعب في الملعب بكل دقة وعدم الاكتفاء بدور واحد فقط للاعب، مما يسمح للمدرب بتحقيق أقصى استفادةٍ ممكنةٍ من القدراتِ الفنّيةِ لكلِّ فردٍ ضمن مجموعة اللاعبين.

الأمر المحوري الذي ساهم في التحول التدريجي نحو التكتيكات الجزئية Micro-Tactics هو صعود المدربين الشباب شيئاً فشيئاً. بدايةً من “جوزيه مورينيو” مع بورتو، ثم “يورغن كلوب” رفقة دورتموند، والاسباني “بيب غوارديولا” مع برشلونة، وكذلك “يواكيم لوف” مع منتخب ألمانيا، وغيرهم.

هذا الأمر جعلنا نرى فرقاً مثل دورتموند تلعب بثلاث مستويات مختلفة في اللعب، كما جعلنا نرى فرقاً مثل ريال مدريد تتنقّل من 3-3-4 إلى 1-3-2-4 ثم إلى 2-1-3-4 بكل سلاسة أثناء المباراة، كما جعلتنا نشاهد منتخب ألمانيا مع “يواخيم لوف” وكيف يتحوّل ويتكيّف بناءً على أسلوب لعب الخصم.

وبالعودة للحديث بشكلٍ مفصّل، يُعتبر “جوزيه مورينيو” من أوائل المدربين الذين ساهموا في تحوّل مدربي كرة القدم إلى التكتيكات الجزئية Micro-Tactics. وربّما هذا الأمر يحوي تفسيراً منطقياً حول الجملة المعتادة التي تقول بأن (موسم “مورينيو” الثاني هو الأفضل دائماً مع كلّ نادٍ يُدربّه).

فـ”مورينيو” يبني فلسفته وفق إمكانيات لاعبيه. يحاول في البداية أن يضع أسلوباً يُناسبهم، ثم يُحاول خلال الموسم الأول أن يفهم طريقة تفكير كل لاعب وأسلوبه في الضغط وبحثه عن المساحات، وبناءً على ذلك يقوم بتغييرات دقيقة على أدوراهم لاستغلال قدراتهم الفردية بشكلٍ كاملٍ في الموسم التالي

مع “جوزيه مورينيو”، أصبح انتر أول نادٍ إيطالي يُحقّق ثلاثية الدوري والكأس ودوري الأبطال وذلك في موسم 2009/10. حيث أظهر البرتغالي قدرته على توظيف إمكانيات لاعبيه الفردية لأداء أكثر من دورٍ داخل الملعب، مستعيناً بإيمانهم الكبير به ورغبتهم بالقتال من أجله.

“مورينيو” مع انتر خلال موسم 2009/10 اعتمد على الرسم التكتيكي 1-3-2-4، مع منظومةٍ دفاعيةٍ صلبةٍ واعتمادٍ كبيرٍ على الهجوم المرتد الذي أظهر أيضاً قدرة البرتغالي على قراءة الخصم والبحث عن نقاط ضعفه لضربها بشكلٍ دقيقٍ خلال هذا الهجوم.

“انتر مورينيو” اعتمد على البقاء في الخلف ومحاولة إغلاق المساحات، وعند حصوله على الكرة يعتمد على قدرة الأرجنتيني “استيبان كامبياسو” الكبيرة على لعب الكرات الطويلة نحو الأطراف، أو نزول “شنايدر” لاستلام الكرة في وسط الملعب وبدء الهجوم ومساندة ثلاثي المقدمة “إيتو، بانديف وميليتو”.

قدرة “كامبياسو” الكبيرة على لعب الكرات الطويلة استخدمها “مورينيو” بشكلٍ جيّدٍ للغاية، كذلك اعتمد البرتغالي على قدرته الدفاعية وذكاءه الكبير للتغطية على صعود البرازيلي “مايكون” -الظهير الأيمن- للأمام وتوسيعه الملعب عند دخول “إيتو” كمهاجم ثاني بجانب “ميليتو” أثناء الاستحواذ.

دفاعياً، يتحوّل انتر إلى 1-1-4-4 بعودة “إيتو وبانديف” للمساندة مع الاعتماد على إغلاق المساحات والارتداد الهجومي السريع والدقيق والمُركّز على إمكانيات “دييغو ميليتو” التهديفية وتمركزه الرائع، إضافةً إلى المساندة الهجومية التي يُقدّمها “ديان ستانكوفيتش” كلاعب Box to Box.
3 سنواتٍ بعد فوز انتر بالثلاثية التاريخية، ويُظهر لنا “بيب غوارديولا” ما يُمكن اعتباره (ثورةً مصغّرةً) في كرة القدم، حيث ظهرت خلال فترته مع البايرن فكرة (الظهير الوهمي – False Fullback).
“بيب غوارديولا” اعتمد على خطة 3-3-4 والتي تتحوّل عند الاستحواذ على الكرة إلى شكلٍ يُشبه خطة 5-3-2 القديمة عبر دخول الظهيرين لوسط الملعب للبقاء بجانب محور الارتكاز، أو نزول محور الارتكاز للخلف كمدافع ثالث لتتحول الخطة إلى شكل يشبه خطة WM الخاصة بالمدرب الإنجليزي “هيربرت تشابمان”.

أفكار “بيب” كانت تطبيقاً مثالياً لمفهوم التكتيكات الجزئية. حيث لطالما استطاع المدرب الاسباني إعطاء كل لاعبٍ من لاعبيه في كل الأندية التي قام بتدريبها أدواراً متعدّدةً داخل الملعب وفق إمكانياتهم الفردية، وهو الأمر الذي يجعل من فرقه دائماً فرقاً من الصعب السيطرة عليها.

التكتيكات الجزئية أظهرت ما عُرِف بمصطلح لاعب الوسط الهجين Hybrid Midfielder، كما جعلت من الرسم التكتيكي مجرّد نقطة انطلاقٍ للاعبين، وليس ذا دلالةٍ كبيرةٍ على أدوارهم داخل الملعب كما كان في السابق. حيث بات شكل الفريق يتغيّر باستمرار من مرحلةٍ إلى أخرى.

التركيز على أدوار كل لاعب على حدة صعّب من مهمة حصر الاحتمالات، وتحوّلت كرة القدم شيئاً فشيئاً إلى ما يُشبه لعبة الشطرنج ولكن على نطاقٍ أوسع. هذا الأمر ساهم في رفع أهمية تحليل الخصم بكل دقة، وتحليل كل مباراة وكل لاعب على حدة، وهو ما أبرَزَ أسلوب عمل الأرجنتيني “مارسيلو بييلسا”.

لعلّ الأمر الذي جذب الأنظار مؤخّراً لأسلوب عمل “مارسيلو بييلسا” وحرصه على تحليل أدق تفاصيل الخصم، هو حادثة التجسس الشهيرة في الموسم الماضي، والتي عقد مدرب ليدز على إثرها مؤتمراً صحفياً مُطوّلاً وضّح من خلاله لماذا قام بالتجسس على تدريبات ديربي كاونتي.

ولكن، بعيداً عن تفاصيل حادثة التجسّس والتي توضّح جزءاً بسيطاً من عمل الأرجنتيني، فإن الكثير من الخبراء يؤمنون بأن “مارسيلو بييلسا” هو أحد أكثر المدربين المعاصرين تأثيراً على كرة القدم الحديثة.

يقول الصحفي الشهير “جوناثان ويلسون” صاحب كتاب “الهرم المقلوب”: “منذ رباعي الدفاع الذي بدأته البرازيل في أواخر الخمسينات وبداية الستينات، لا يوجد تأثيرٌ كبيرٌ لأمريكا الجنوبية على طريقة لعب كرة القدم في العالم، حتى جاء “مارسيلو بييلسا” في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين”

عُرِف “بييلسا” بأساليبه التدريبية الصارمة، وكذلك بتركيزه الكبير على تحليل أدق تفاصيل كل خصمٍ قبل كل مباراة. كما أن مبادئ كرة القدم التي ينتهجها باتت المبادئ التي يعمل بها العديد من المدربين الحاليين أمثال: بيب غوارديولا، ماوريسيو بوتشيتينو، مارسيلو غاياردو، خورخي سامباولي وغيرهم

يقول الاسباني “بيب غوارديولا” عن “مارسيلو بييلسا”: “بالنسبة لي فإن مارسيلو أفضل مدربٍ في العالم. فرغم أن البعض يُقيّم المدربين بعدد الألقاب، إلا أن تأثير بييلسا على كرة القدم الحديثة هو أكبر من ذلك وأهم منه بكثير”

المبادئ الأساسية التي ميّزت (كرة بييلسا – Bielsista) هي كالتالي:

الاستحواذ على الكرة.
خلق مثلثات للتمرير.
الهجوم العمودي عبر الأطراف.
أجنحة قادرة على الدخول للعمق.
الضغط العالي.
وجود لاعب إضافي في الدفاع.

أخيراً، هل انتهى تطوّر تكتيكات كرة القدم عند هذا الحد؟ ربما يرى البعض أن كرة القدم تتحوّل شيئاً فشيئاً إلى لعبةٍ أكثر تعقيداً، وأصبحت الأرقام والإحصائيات هي الأساس الذي يعتمد عليه المدربون في الوقت الحاضر، حيث سهّلت التقنية الحديثة من جلب أدق التفاصيل والإحصائيات حول كل لاعب.

كما ساهمت هذه التقنية في عملية تحليل أداء الخصم واللاعبين أثناء مجريات المباراة.

فأصبح من السهل على المدربين معرفة اللاعب المُجهَد لتغييره، أو تغيير أدواره داخل الملعب بما يتناسب مع حالته البدنية، وكذلك متابعة تحركات اللاعبين وقربهم من بعضهم البعض.

ولذلك -وبالنظر إلى التطوّر المستمر للتقنية- قد يتّخذ تكتيك كرة القدم بُعداً آخر يتمكّن المدربون من خلاله من ابتكار أساليب وطرق لعبٍ جديدة قد تُحدث ثورةً مختلفةً تُضفي على كرة القدم متعةً أخرى غير مسبوقة.

اترك تعليقًا

Please log in using one of these methods to post your comment:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s