كالفن وظهور التطهيريون

أثّرت آراء ومعتقدات “مارتن لوثر” الإصلاحية على العديد من الناس، وانتشرت أفكاره في العديد من الدول المجاورة لألمانيا، ولاقت لها أنصاراً عدة ولعل من أبرزهم كان المصلح الديني واللاهوتي الفرنسي “جان كالفن”.

الولادة والنشأة ورحيله عن فرنسا

جان كالفن
جان كالفن
ساهم في نشر أفكار معلمه “مارتن لوثر” إلى خارج حدود ألمانيا، وكانت الكالفينية أكثر أشكال الإصلاح البروتستانتي تأثيراً، فقد كوّنت الكنيسة البروتستانتية في فرنسا، وشكّلت الجمهورية الهولندية، وجعلها الإسكتلنديون ديانةً قوميةً لهم، وكذلك الحال في سويسرا والمجر

ولد “جان كالفن” عام 1509م في فرنسا، وكان ميلاده بعد مولد أستاذه الألماني “مارتن لوثر” بستٍ وعشرين سنة، ولذلك هو يعد من الجيل الثاني من المصلحين البروتستانت وكان يوصف بأنه تلميذ “مارتن لوثر” النجيب والعبقري.

بعد تخرج “كالفن” من المدرسة، واصل تعليمه في “باريس” واستطاع الحصول على درجة مدرس في الفتون بتاريخ 1528م، قبل أن يتّجه لدراسة الحقوق في جامعة “أورليان”، ثم ذهب إلى “بورج” لمتابعة دراسته في القانون الروماني، وبعد وفاة والده عاد لإكمال دراسته الحقوق في جامعة “أورليان” من جديد، قبل أن يعود إلى “باريس” مرةً أخرى لمواصلة دروسه في فقه اللغة، حيث اكتسب معرفة اللغة اليونانية واللغة العبرية التي ساعدته ليكون فيما بعد مفسّراً للكتاب المقدّس.

وفي عام 1533م، اتّهم “جان كالفن” بأنه هو محرر الخطاب الافتتاحي الذي ألقاه رئيس الجامعة في يوم عيد جميع القديسين والذي وُصف بأنه ذا طابعٍ لوثري، ليضطر إلى مغادرة “باريس” ثم التوجه إلى مدينة “بال” في سويسرا ثم الاستقرار في “جنيف” التي بقي فيها حتى توفي عام 1564م.


كيف استفاد اليهود من أفكاره وهل كان يهودياً؟

كان “جان كالفن” متشدّداً مثل معلمه “مارتن لوثر” في وجوب الأخذ بالكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد، وهو ما كان بدايةً لظهور الأثر اليهودي على المذهب الكالفيني الذي أسّس عقائده معتمداً على سرعة انتشار مؤلفاته وأبحاثه، ومنها تأسست الكنيسة الانجيلية.

وقد كانت أفكار “جان كالفن” تلك سبباً في زيادة أتباعه من يهود أوروبا بشكلٍ عام ويهود إنجلترا بشكلٍ خاص، وخصوصاً إقراره بمشروعية الربا، وهو ما جعل العديد من الباحثين يذكرون بأن “جان كالفن” من أصلٍ يهودي، حيث ذكر بعضهم بأنه قام بتحويل اسمه من “كوهين” إلى “كالفن” وانتقل إلى سويسرا ووزّع العديد من رجاله في أنحاء إنجلترا واسكتلندا لبذر بذور الثورة تحت ستار الدين.


الأوضاع في إنجلترا

كانت العلاقة بين سلطة الكنيسة والملك في إنجلترا لا تسير بشكلٍ جيد، ولعل أبرز أحداث تلك الخلافات محاولة الملك “هنري الثامن” تطليق زوجته لأنها لم تُنجب له وريثاً ذكراً للعرش، وهو ما رفضه البابا ليلجأ الملك “هنري الثامن” إلى لجنةٍ خاصة من الكنيسة أفتته بجواز طلاقه، فما كان من البابا إلا أن أعلن الحرمان ضد “هنري الثامن” في عام 1533م، ليقوم “هنري الثامن” بتنظيم كنيسةٍ إنجليزيةٍ مستقلةٍ لا تخضع لبابا روما، ونصّب نفسه رئيساً لها، وسُمّيت بالكنيسة الأنغليكانية، وهي الكنيسة التي توطّدت واستقرّت ملامحها في عهد الملكة “اليزابيث الأولى” ابنة الملك “هنري الثامن” من زوجته الثانية التي تزوجها بعد أن قام بتطليق الأولى، وقد كانت الملكة “اليزابيث الأولى” ثالث شخصٍ يتولّى الحكم بعد وفاة الملك “هنري الثامن”.


ظهور التطهيريون

ساهمت المعتقدات والأفكار التي نادى بها قادة الإصلاح البروتستانتي في ظهور فرق متشدّدة حريصة جداً على التمسّك الحرفي بالكتاب المقدس والمغالاة في تطبيقه في الحياة اليومية، وكان أبرز تلك الفرق هي فرقة التطهيريون أو البيوريتان.

كان أول ظهور للتطهيريين على يد “روبيرت براون” عام 1564م -بعد وفاة “مارتن لوثر” بثمانية عشر عاماً- في إنجلترا بين رجال الدين البروتستانت الذين أرادوا إصلاح الكنيسة الأنغليكانية وكانت تلك الحركة مرتبطة بشكلٍ وثيق بالكالفينية في جنيف، حيث اشتركتا بكونهما متقيدتين جداً بحرفية العهد القديم.


الثورة الإنجليزية واستلام التطهيريين للسلطة

أوليفر كرومويل
أوليفر كرومويل
ولد سنة 1599 لأسرة ارستقراطية وعُرف كونه رجل غريب الأطوار وكان منتقديه يعتبرونه أحد القادة الديكتاتوريين.
كان يعاني من نوبات ذهانية، وهوس ديني، وكان ممن لا يطيعون السلطات وكثيراً ما اصطدم برجال الدين في بريطانيا.

بالرغم من انفصال الملك “هنري الثامن” بكنيسته الأنغليكانية عن الكنيسة في روما، إلا أنه لم ينفصل عن الكاثوليكية، وقام بمطاردة أصحاب الأفكار الكالفينية فترةً طويلة، حتى وفاته سنة 1547م، ليتولّى “إدوارد السادس” الحكم وكان حينها لم يتجاوز التسع سنوات، لتعود الأفكار الكالفينية للظهور من جديد والتغلغل في أوساط الشعب.

حتى جاء عام 1649م ليقوم “أوليفر كرومويل” بالثورة الإنجليزية ليُسانده الجناح المتطرف للتطهيريين لتنطلق أحداث الحرب الأهلية الإنجليزية التي انتهت بمحاكمة الملك “تشارلز الأول” وإعدامه، ليتم بالتالي إعلان جمهورية إنجلترا التي جعلت من العهد القديم دستوراً لها.

وقد كان التطهيريون شديدي المحافظة على التقاليد العبرانية، واعتمدوا على العهد القديم واعتبروه وحياً سماوياً، واتجهوا لإحلاله مكان العهد الجديد “الإنجيل” والتزموا بتشريعاته واعتمدوا على نصوصه في دعم أفكارهم السياسية والاجتماعية، وهو ما جعلهم بالتالي يؤمنون بكل ما فيه، لتكون أفكار العهد القديم مترسخةً في الفكر التطهيري، وكان من الطبيعي أن تكون فكرة إعادة بني إسرائيل إلى أرض فلسطين على رأس اهتماماتهم، باعتبار أنها وطن اليهود ولا بد من عودتهم إليه ليعود المسيح عيسى بن مريم من جديد طبقاً للنبوءات الواردة فيه.


أوليفير كرومويل وتوطين اليهود في فلسطين

 بعد قيام “أوليفر كرومويل” بالثورة، ومحاكمته الملك “تشارلز الأول” وإعدامه، أعلن في عام 1653م “الكومنولث البيوريتاني” أو “كومنولث إنجلترا الحر” وأصبح رئيساً له حتى وفاته عام 1658م، وكان قد دعا في عام 1655م إلى عقد مؤتمر للتشريع لعودة اليهود إلى إنجلترا من جديد، ما يعني إلغاء قانون طرد اليهود الذي اتخذه الملك “إدوارد الأول” عام 1290م، وربط إلغاء قانون الطرد بالمصالح الاستراتيجية لإنجلترا، وأظهر بالتالي حماساً كبيراً لمشروع توطين اليهود في فلسطين منذ البداية.

وقد كان هذا الحماس مقترناً أيضاً بالمصالح الاقتصادية -بالرغم من كونه لم يفصح عن ذلك- إلا أن الكثير من المؤرّخين رجّح أن دوافعه تلك لم تكن لأسباب دينية فقط، بل لأسباب اقتصادية، خصوصاً وأن الحرب الأهلية ألحقت ضرراً كبيراً في قوة إنجلترا التجارية والبحرية، ليُحاول إعادة رؤوس الأموال اليهودية من جديد إلى إنجلترا لمجابهة القوة التجارية للبرتغال واسبانيا خصوصاً، حيث كان لتلك الدول جماعاتٍ يهوديةٍ معروفة بثرواتها وعقليتها التجارية الفذة ساهمت في تلك القوة للبلدين.


الهجرة إلى أمريكا

بعد وفاة “أوليفر كرومويل” عام 1658م، تراجعت قوة التطهيريين كثيراً كقوةٍ دينية وسياسية، خاصةً مع عودة “آل ستيورات” للحكم عام 1660م قبل أن يتم القضاء على هذا التيار في عهد ما سُمّي بالثورة المجيدة عام 1688م التي كانت سبباً مباشراً في هجرة الغالبية العظمى من البيوريتانيين إلى أمريكا -حينها كانت تُسمّى القارة الجديدة- حيث عملوا على تأسيس مستعمراتهم ونشر مذهبهم.


في المقال القادم سأتحدث عن المسيحية المتهودة في أمريكا قبل ظهور التطهيريون، وكذلك عن القصة الحقيقية للرحالة الإيطالي الشهير “كريستوفر كولومبوس” وحقيقة اكتشافه للقارة الأمريكية.

اترك تعليقًا

Please log in using one of these methods to post your comment:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s