منذ 2013 تقريباً، عادت إلى الواجهة جملة (طريق الحرير) وبتنا نسمع عن هذا الطريق كثيراً عبر وسائل الاعلام المختلفة.
فما هو طريق الحرير؟
هي مجموعة من الطرق المترابطة التي تسلكها البضائع براً وبحراً -وخصوصاً الحرير الذي كانت الصين هي المنتج الوحيد له- وتمر عبر جنوب آسيا لتربط الصين بتركيا مروراً بمواقع أخرى، وكان لتلك الطرق تأثيرٌ كبيرٌ على ازدهار كثيرٍ من الحضارات القديمة، قبل أن تتضائل أهميتها بدايةً من القرن الخامس عشر بسبب الاكتشافات الجغرافية.
في وقتنا الحالي، لم تعد تلك الجملة مجرد وصفٍ لمشروعِ طرقٍ لنقل البضائع الصينية إلى مختلف دول العالم أو العكس، بل بات يُعبّر عن تغييرٍ كبير في موازين القوى في العالم وسبباً مهماً في كثيرٍ من الأحداث والصراعات في المنطقة.
في عام 2013 أعلن الرئيس الصيني شي جين بينغ مبادرة لإعادة طريق الحرير أسماها مبادرة (الحزام والطريق) أو (حزام واحد، طريق واحد)، عبر إحياء طرق الحرير القديمة مع إضافة طرقٍ جديدة بهدف إيجاد ممرات متنوعة ومختلفة للتجارة الصينية التي يتضخم ضخها إلى العالم بشكلٍ متزايد، والتي تستقبل كذلك الكثير من المواد الخام من حول العالم، وتحديداً من منطقة الشرق الأوسط وأفريقيا.
فالصين إذاً تملك أهدافاً متعددةً من مبادرة إحياء طرق الحرير، حيث رصدت ما يقارب الترليون دولار من أجل ذلك، عبر مشاريع تجاوز عددها التسعين حتى الآن في أكثر من 50 دولة حول العالم، مع فتحها المجال لأي دولة تريد الاشتراك في هذا المشروع متى ما قَبِلَت استثمار الصين في بنيتها التحتية.
لكن الهدف الأبرز لهذا المشروع، هو ما صرح به الرئيس الصيني السابق هو جينتاو عام 2003 ووصفه له بأنه حلٌّ لما أسماه (مأساة مضيق ملقا).
مضيق ملقا هو ممر مائي بطول 800 كيلو متر يقع في جنوب شرق آسيا بين شبه جزيرة ماليزيا وجزيرة سومطرة الاندونيسية ويعد أحد أكثر الممرات المائية حيويةً في العالم من ناحية حركة الملاحة والتي تعد مكافئةً لتلك التي تعرفها قناة السويس، ويُورّد للصين أكثر من 80% من وارداتها من الوقود تحديداً بخلاف كونه معبراً رئيسياً لكل صادراتها إلى العالم.
هذا المضيق تسيطر عليه الولايات المتحدة الأمريكية عسكرياً عبر تواجد العديد من القواعد العسكرية، لعل أبرزها قاعدة دييغو جارسيا والتي تعد أكبر قاعدة دعم عسكري وبحري في العالم، وهو الأمر الذي يعني القدرة على تضييق الخناق على الصين متى ما رأت الولايات المتحدة ذلك، حيث أن إغلاقه سيعني عجز الصين عن الحصول على وارداتها وخفض نسبة الصادرات بشكلٍ كبير.
ولذلك، فإن أحد أهم أهداف الصين من محاولة إعادة إحياء طريق الحرير هو إيجاد بدائل لتجارتها بعيداً عن مضيق ملقا، عبر إيجاد طرق مختلفة عبر الدول المحيطة.
فعلى سبيل المثال، قامت الصين بعمل خط أنابيب غاز يمر عبر دولة ميانمار، كما أنها شرعت في تدشين ما يُعرف بالممر الاقتصادي الصيني – الباكستاني إلى بحر العرب، عبر شبكةٍ من الطرق البرية وسكك الحديد لتحميل البضائع، غير أن الهدف الأهم هو أن تمدها باكستان ببدائل للحصول على مصادر الطاقة تحديداً بعيداً عن مضيق ملقا.
خط أنابيب الغاز الصيني الذي يمر في أراضي ميانمار ربما يُفسّر دعم حكومة بكين الكبير لحكومة ميانمار وغض الطرف عما تفعله في مواجهتها مع مسلمي الروهينجا، ودعمها لما أسمته “جهود ميانمار في الحفاظ على السلام والاستقرار” في ولاية أراكان وإدانتها لهجمات العنف في المنطقة.
على الجانب الآخر، فإن الولايات المتحدة منتبهةً جداً لما تحاول الصين فعله، وتحاول محاصرتها منذ عدة سنوات، وهذا الأمر يتّضح في محاولة أمريكا إحكام السيطرة على مضيق ملقا عبر القواعد العسكرية ومحاولة إذكاء المشاكل وإشعال فتيلها بين الصين ودول الجوار كتايوان وماليزيا وأندونيسيا.
ولكن ما يجب أن ننتبه له هو أن أحد أهم أسباب ما يحدث في منطقة الشرق الأوسط هي تلك الحرب غير المعلنة بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين.
يقول المفكر والاقتصادي المصري سمير أمين في كتابه ما بعد الرأسمالية المتهالكة، أن ما حدث في العراق وما يحدث حالياً في كثيرٍ من دول الشرق الأوسط ما كانت إلا خطواتٌ استباقية من الإدارة الأمريكية لمواجهة الصعود الصيني، عبر قطع الإمدادات عنها والسيطرة على أحد أهم مناطق صعود الصين وهي منطقة الشرق الأوسط والخليج العربي -تحديداً- الغنية بالنفط والغاز.
فالولايات المتحدة لم تعد تحتاج لنفط وغاز المنطقة لنفسها، بل تحتاجه كورقة ضغطٍ على الصين لمنعها وحلفائها منه، والتأكد من كونه يتوجّه إلى الحلفاء القريبين من الولايات المتحدة، ولإحكام السيطرة على شبكة الطرق التجارية وشبكات الطاقة القادمة من الخليج العربي وأفريقيا.
وأخيراً، فلعل أبرز ما يُميّز مبادرة طريق الحرير الجديد هو كونها مرنة جداً وقابلة للتغيير، ومنفتحة على أي تحالفات جديدة، وعلى ذلك فإن التغييرات التنكولوجية والجيو-سياسية التي تجتاج العالم ستجعلنا نرى تحالفات جديدة وانضمام دول أخرى إلى هذه المبادرة طالما وجدت تلك الدول فرص وإمكانية حقيقية لتسخير تلك المبادرة لدعم تنميتها وخدمة مصالحها واستقرارها.