كانت والدتي -ولمدةٍ تزيد عن الثلاثين عاماً- معلمةً للغة العربية لطالبات الصفوف الدنيا -الصف الأول تحديداً- ورغم كل تلك السنوات التي قضتها في تدريس اللغة العربية، إلا أن سؤالاً واحداً كانت تسأله دائماً لم تستطع تحديد إجابته: لماذا تدهورت لغتنا؟
منذ ولادة ابنتي قبل أكثر من عام، وأنا أحاول أن أبحث عمّا ينمّي قدراتها اللغوية والعقلية، وكان همّي الأكبر هي القدرات العقلية، حتى وقعت على بعض الدارسات والبحوث واللقاءات المتلفزة والإذاعية للدكتورة سهير السكري أخصائية اللغويات في جامعة جورج تاون في واشنطن، حينها وجدت ما أعتقد بأنه الطريق الصحيح لتنمية قدرات ابنتي العقلية واللغوية معاً، وكذلك وجدت إجابة السؤال الذي لطالما سألته والدتي: لماذا تدهورت اللغة العربية؟
تقول الدكتورة سهير السكري أن اهتمامها الكبير بالبحوث والدراسات حول الطفل كانت بسبب الفرق الكبير الذي كانت تلاحظه بين طفلنا العربي والطفل الغربي، فأطفالنا منذ ولادتهم وحتى دخولهم المدرسة يتكلمون فقط باللهجة العامية والتي لا تتجاوز حصيلتها الـ 3 آلاف كلمة، مما يعني حدوداً ضيقة لمساحة التفكير والتصور والإبداع التي لا تتحقق إلا باللغة، بينما الطفل الغربي يدخل المدرسة بحصيلة لغوية قد تصل إلى 16 ألف كلمة!
تقول الدكتورة سهير أن هذه المعلومة أصابتها بالخوف والقلق على مستقبل أبنائنا، حتى وقع بيدها كتاب اسمه “Militant Islam” أو “الإسلام الثوري” للكاتب Godfrey H. Jansen الذي يبيّن فيه حجم الجهود المبذولة في القرن التاسع عشر من أجل القضاء على فكرة الدولة الإسلامية، ويوضح كيف بدأ المفكرون بدراسة أسباب قوة الفرد المسلم، وملاحظتهم بأن الطفل المسلم كان يذهب من سن الثالثة وحتى السادسة إلى ما يعرف بـ (الكُتّاب) ليبدأ في حفظ القرآن الكريم وبعد ذلك يبدأ بدراسة ألفية ابن مالك، فوصلوا إلى أن الطفل يكتسب مخزوناً لغوياً هائلاً قبل أن يرتقي بالتعليم، حيث أن عدد كلمات القرآن الكريم 77439 كلمة، فيما عدد مفرداته -غير المكررة- تبلغ نحو 17500 مفردة، تمثّل أهم وأفصح وأجمل التركيبات اللغوية والصيغ البلاغية وهي تؤسس لفهم كل مفردات اللغة العربية التي تصل إلى أكثر من 12 مليون مفردة -أي ما يعادل عشرين ضعفاً لأوسع اللغات الأوروبية وهي اللغة الإنجليزية-، لذا كان الفرد العربي أكثر قوة وصلابة وإقداماً من نظيره الغربي، والفضل كله يعود إلى نوعية التعليم المتمثّلة في (الكُتّاب).
ويستمر الكاتب بالقول: “أنه بالمقارنة بما يكتسبه الطفل الأوروبي من مخزون لغوي في تلك الأيام فإن الفارق هائل، واعتقدوا أن ذلك قد يكون أحد أهم أسباب تفوق الطفل المسلم، ليقترحوا استهداف ذلك كواحدٍ من إجراءات أخرى ثقافية وعسكرية وإعلامية للقضاء على تفوق الإسلام، فوجدوا أن استهداف اللغة العربية بتشويهها صعب بسبب قوتها الكبيرة، فكانت الفكرة بتشجيع إحلال اللهجات المحلية لتقليل استعمال اللغة العربية الصحيحة من ناحية، ولإبعاد الشعوب العربية عن بعضها من ناحية أخرى، فبدأ الفرنسيون أولاً بمنع الكتاتيب في دول شمال أفريقيا، ثم شجع الإنجليز البعثات التبشيرية الثقافية وأسسوا المدارس الأجنبية، وحصروا تعليم القرآن الكريم في (الكُتّاب) وربطوه بفئة الفقراء والأسر المعدمة”
واليوم نشاهد تطوراً أكبر وأخطر في أسلوبهم، بربط حلقات تحفيظ القرآن الكريم بالإرهاب بشكلٍ فج ومكثف عبر وسائل الإعلام المختلفة، في حلقةٍ جديدةٍ من محاولة إبعاد أجيالنا القادمة عن دينهم ولغتهم.