في عام 1923 توفي الرئيس الأمريكي “وارن جي” بشكلٍ مفاجئ ليتولى نائبه “كالفن كوليدج” الرئاسة مؤقتاً قبل أن يدخل سباق الرئاسة الجديد عام 1924، ومع قرب الانتخابات الرئاسية استعان البيت الأبيض برجلٍ يُدعى “إدوارد بيرنيز” – وهو أمريكي من أصلٍ نمساوي عُرِف بأنه منشأ ما يُسمّى بـ (العلاقات العامة والبروباغاندا) -.
قام “بيرنيز” بدعوة عدة ممثلين وممثلات من نجوم “مسرح برودواي” الشهير إلى البيت الأبيض في دعوةِ إفطارٍ مع الرئيس “كوليدج”، لتتصدر في اليوم التالي صور الرئيس وهو مبتسم ومحاط بأولئك النجوم صفحات الجرائد الأمريكية واعتبر الشعب وجود هؤلاء النجوم بجانبه تأييداً له، لينتخبوه الرئيس الثلاثين للولايات المتحدة الأمريكية، لتكون تلك المرة الأولى التي يُستخدم فيها المشاهير للترويج السياسي.
ذات يوم، تواصل رئيس شركة التبغ الأمريكية الشهيرة Lucky Strike “جورج هيل” مع “بيرنيز” لإقامة حملةٍ لإعادة الشركة إلى مكانتها بعد أن بدأت تخسر نصف سوق التبغ، بسبب حرمان الرجال التدخين على النساء -حيث كان التدخين وقتها يعتبر رمزاً للرجولة-.
حينها طلب “بيرنيز” أن يستشير محللاً نفسياً في الأمر، ليلجأ إلى الدكتور “بريل” -الذي كان من أهم تلامذة عمّه الطبيب الشهير “سيغموند فرويد” (مؤسس التحليل النفسي)- ويسأله سؤالاً مباشراً: ماذا تعني السجائر للنساء؟ ليُجيب الدكتور “بريل” سريعاً: هي مشاعل حرية النساء!
ومستغلاً كونه لم يتم اكتشاف مضار التدخين -حيث لم يُكتشف ضرره إلا بعد نحو 30 عاماً بعد ذلك- قام “بيرنيز” بالاتفاق مع مجموعةٍ من النساء الجميلات والمتمردات بالسير يوم عيدِ الفصح ليرفعن سجائرهن إلى الأعلى كتمثال الحرية، وقبل يومٍ من ذلك قام بتسريب هذا الخبر -والذي يعتبر فضيحةً حينها- إلى الصحافة، لتمتلئ صفحات أكبر الصحف الأمريكية في اليوم التالي لعيد الفصح بصور هؤلاء النساء.
ورغم حجم السخط الذي عبر عنه الشارع الأمريكي لتلك الفعلة، إلا أنه حصل على دعايةٍ مجانية للفكرة، حيث بدأت شركة التبغ بالتركيز في إعلاناتها على مسمى (مشاعل الحرية) كتعبيرٍ عن السجائر، لتبدأ كثيرٌ من النساء بالانبهار بالفكرة والتمرد والتدخين في الأماكن العامة.
بعد ذلك، بدأت شركات التجميل والموضة والمجلات النسائية الشهيرة وكذلك صناع الأفلام بالتعاقد مع “بيرنيز” للترويج لهم، حيث كان يتعاقد مع الممثلات الأكثر شهرة للترويج للشركات والماركات عبر إلزامهن بارتداء الملابس من الشركات المتعاقدة معه، وكذلك الترويج لأدوات التجميل الخاصة بالشركة الأخرى وهكذا، ليبدأ “بيرنيز” بالتقليد الشهير والمستمر إلى يومنا هذا وهو (السجادة الحمراء) التي تستعرض فيها الممثلات أزيائهن والتي تُصمّمها أبرز شركات الأزياء حول العالم.
كان “بيرنيز” يعمل على إحداث تغييرٍ جذري في ثقافة المجتمع، وإعادة تشكيل قيمه وتقاليده، وحتى أفكاره، عبر تطبيقه للنظريات النفسية لعمه العالم النفسي الشهير “فرويد” في السيطرة على الجماهير لترويج المنتجات والأفكار السياسية والاستهلاكية، ولإعادة هندسة المجتمع الأمريكي ليصبح مجتمعاً رأسمالي مستهلك، يتطلع للمشاهير ويسير على خطاهم دون تفكير، كل ذلك عبر علم النفس والسلوك واستخدام الممثلين وأبطال الرياضة والمشاهير عموماً للتأثير في وعي المجتمع، دون أن يشعر المجتمع بأنه تحت التأثير المستمر عليه، ودون أن ينتبه بأن خياراته تملى عليه ولا يملك الحرية لاختيارها.
في النهاية، الإعلام هو صاحب المعلومة الأعلى صوتاً، وسواء كانت صحيحة أم خاطئة، ضارة أم نافعة لا يعنيه ذلك طالما كان الهدف يسير وفق منهج صانعي الإعلام والمستفيدون من أخباره، ويبقى تقصي الحقائق على كاهل المتلقي، فلا تُسلّم عقلك لأحد!